الحرب الباردة الثانية- معضلات أمريكا وتحديات النظام العالمي الجديد

المؤلف: منير شفيق10.03.2025
الحرب الباردة الثانية- معضلات أمريكا وتحديات النظام العالمي الجديد

من المتوقع أن يشهد العالم صراعًا عالميًا محتدمًا بين الولايات المتحدة وحلفائها، من جانب، وبين الصين وروسيا وعدد من الدول الأخرى، من جانب آخر، وهو ما يمكن اعتباره "الحرب الباردة العالمية الثانية". تأتي هذه المواجهة بعد انتهاء الحرب الباردة الأولى، التي دارت رحاها بين أمريكا وحلفائها والاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

خلال الحرب الباردة الأولى، كان هناك توقعات بوقوع حرب عالمية ثالثة تحدد مصير العالم، على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن احتمال الفناء النووي الشامل حال دون ذلك، مما حول الصراع إلى سباق محموم للتسلح النووي، ثم تطور السباق، بفضل أمريكا، إلى ما يعرف بـ "حرب النجوم"، أي تطوير صواريخ مضادة للصواريخ النووية، بهدف تحقيق تفوق استراتيجي.

يرى بعض المحللين أن الخطأ القاتل للاتحاد السوفيتي كان انخراطه في سباق "حرب النجوم"، الذي استنزف موارد هائلة لم يكن الاقتصاد السوفيتي قادرًا على تحملها، مقارنة بالإمكانات المالية والتقنية المتفوقة للولايات المتحدة.

هذا الخطأ كان من الممكن أن يتكرر مع عودة روسيا في عهد بوتين كقوة نووية عظمى (2000-2010)، تمتلك ترسانة نووية تضاهي القدرة التدميرية الأمريكية، بما يكفي لتدمير كوكب الأرض مرة واحدة على الأقل، بينما تستطيع أمريكا تدميره أربع أو خمس مرات (لا يوجد فرق جوهري في النتيجة).

لكن بوتين أعلن بوضوح أنه ليس في حاجة لتكرار خطأ الاتحاد السوفيتي، وذلك من خلال تطوير وإنتاج قنابل وصواريخ نووية بأعداد تفوق قدرة "حرب النجوم" على اعتراضها، أو ما يعرف بـ "القبة الحديدية".

كما تمكنت روسيا من إنتاج صواريخ مضادة للصواريخ، مما يحافظ على قدرتها على ضرب الخصم. هذا النهج يسمح بالإنتاج الكثيف للأسلحة بتكاليف أقل بكثير من المنافسة في "حرب النجوم".

كل ذلك يشير إلى أن الحرب الباردة العالمية الثانية التي يشهدها العالم اليوم، تختلف في طبيعتها وخصائصها عن سابقتها من عدة جوانب.

أولًا: فيما يتعلق بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، لا يوجد تغيير كبير مقارنة بموقفهم في الحرب الباردة الأولى. فقد حققوا انتصارًا ساحقًا، اعتبره البعض "نهاية التاريخ" (كما قال فوكوياما)، أي انتصار النموذج الغربي وهيمنته على العالم.

وإذا كان هناك أي تغيير بالنسبة لأمريكا والغرب، فهو مرتبط بتحديات داخلية مثل الشيخوخة السكانية، أو بالهزائم التي تعرضوا لها في الماضي، مثل حرب فيتنام، أو بالمتغيرات الدولية والإسلامية والعالمية الأخرى.

ثانيًا: الخصم الرئيسي للولايات المتحدة في الحرب الباردة العالمية الثانية هي الصين، التي حققت تطورات هائلة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، مما قلص الفجوة التي كانت تفصلها عن أمريكا والغرب، على عكس الاتحاد السوفياتي الذي ظل متخلفًا اقتصاديًا وماليًا وتقنيًا.

تطمح الصين الآن إلى الحلول محل أمريكا كقوة عظمى رقم 1 في جميع المجالات، باستثناء النفوذ السياسي و"الثقافي الحداثي". لكنها تتبنى نهجًا وقدرات متفوقة في إدارة الصراع، وتخلت منذ البداية، على عكس الاتحاد السوفياتي، عن الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والحرية الفردية والديمقراطية، وبين الاشتراكية والشيوعية.

ثالثًا: فقدت أمريكا سلاحها الأيديولوجي، ولم يعد النظام الاقتصادي محورًا للصراع. أما سلاح الصين الأيديولوجي، فهو لا يتعلق بالرأسمالية أو العدالة الاجتماعية، بل بنظام عالمي يحترم القانون الدولي، ويساوي بين القوى الدولية، ويستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، مع احترام مصالح الشعوب في تحديد خياراتها وأنظمتها. هذا يتعارض مع الأحادية القطبية وهيمنة أمريكا والغرب على النظام العالمي.

من هذا المنطلق، تعتبر الأهداف الصينية (والروسية) أقوى سياسيًا وأيديولوجيًا، وتستجيب بشكل أفضل لمصالح شعوب العالم، حتى وإن كان التركيز على تعدد الأقطاب يعني مراعاة مصالح الدول الكبرى على حساب مصالح الشعوب الأصغر، لكن هذا يظل أخف وطأة من الأحادية القطبية والسيطرة الغربية المطلقة.

رابعًا: هناك معضلة متنامية تواجهها أمريكا في حربها الباردة مع الصين وروسيا، وهي معضلة لا يتم التطرق إليها كثيرًا، لأنها تتعلق بمحاولات الصهيونية الأمريكية وحكومات الكيان الصهيوني لفرض أولويات خاصة على السياسة الأمريكية. السؤال هو: هل يجب إعطاء الأولوية للشرق الأوسط وتحقيق سيطرة الكيان الصهيوني عليه، أم للصراع مع الصين وروسيا، بحيث تخضع السياسات الأخرى لهذه الأولوية؟

هذا التضارب ظهر بوضوح في عهدي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، وصولًا إلى عهد بايدن، باستثناء فترة أوباما الذي دعا إلى تغليب الصراع مع الصين وإعطائه الأولوية في السياسات الأمريكية.

عندما تم حسم هذه المعضلة لصالح إعطاء الأولوية للشرق الأوسط، تحت شعار إعادة تشكيل المنطقة وإخضاعها لإستراتيجية الكيان الصهيوني (1992-2010)، وذلك بحجة السيطرة التامة على الدول العربية والإسلامية (إيران وتركيا)، ثم الانتقال لاحقًا إلى إعطاء الأولوية للصين، كانت النتيجة عكسية.

فقد أدت تجربة كلينتون في التسعينيات وتجربة جورج دبليو بوش في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى فشلهما الذريع في إعادة بناء "الشرق الأوسط"، كما أدت إلى تجاهل الخطر المتنامي من جانب الصين وروسيا، مما أدى إلى تطور هائل في هاتين الدولتين، وجعل أمريكا في موقف ضعف وتراجع في ميزان القوى على المستوى الدولي.

وقد تكرر هذا الخطأ بشكل صارخ مع جو بايدن خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 (سنة وشهر)، عندما أعطيت الأولوية لإنقاذ نتنياهو من الهزيمة من خلال استمرار الحرب في غزة. وكانت النتيجة فشلًا عسكريًا وعزلة دولية، وتناقضًا داخليًا حادًا في التنافس الرئاسي الأمريكي. أما الصين، فقد ظلت تراقب الوضع عن كثب، وهي تترقب تورط أمريكا.

هذه المعضلة المتعلقة بتحديد الأولويات في الإستراتيجية الأمريكية ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد ما إذا كانت أمريكا ستخسر الحرب الباردة الثانية، على عكس ما حدث في الحرب الباردة العالمية السابقة، التي حافظت فيها على أولوية الصراع الدولي مع الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، ولم تتأرجح بينه وبين أي أولوية أخرى. وذلك من خلال تحديد الخطر الحقيقي والأشد الذي يواجه أمريكا ويهدد هيمنتها وهيمنة الغرب عمومًا.

فما يسمى بـ "الشرق الأوسط"، على الرغم من أهميته، لا يمثل الأولوية القصوى عند تقييم صراع القوى الكبرى في السيطرة العالمية. فكيف يمكن إعطاؤه الأولوية، ثم ينتهي الأمر بالفشل الذريع؟

هنا يجب على أمريكا والغرب أن يدركا أنهما قد خسرا الكثير من مصداقيتهما في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد تقديمهما الدعم العسكري لحرب الإبادة في قطاع غزة. وهذا سيكون له تأثير جوهري في تحديد من سيتغلب على الآخر في الحرب الباردة العالمية الثانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة